Sunday, January 28, 2007





هيمنة صور الذاكرة
خالد خضير الصالحي
البصرة
حين نزعم وجود نسقين في الرسم التجريدي العراقي: واحد انبثق من التعبيرية ببطء وظل وفياً لها حتى في (اشد) حالاته تجريداً، وآخر ابتدأ من (اللامشخص) وظل كذلك وفياً له ، فكأني بهؤلاء وهؤلاء الرسامين - وهم يضعون أدوات الرسم ومواده على سطح اللوحة- يبدون منقادين بقوة صور الذاكرة المهيمنة عليهم، (حيث يكمن الطابع typos في قلب الرؤية الفنية)، سواء أكانت مشخصة أم غير مشخصة ، وهي تقودهم كالمسرنمين إلى حقل اشتغالها حيث التفكير بالصور، ونحن هنا لا نعاير التجارب فيستوي هؤلاء وهؤلاء ، فالجميع تهمين عليهم تلك الصور وتقودهم كعميان بروجل.
وقد كنت اختار بعضاً من الفئة الأولى، التي تبتدئ بمشخصات الواقع وتنتهي بها مجردة وبعضا من الفئة الثانية التي تبتدئ (باللاشكل) وتنتهي به، فكنت اتخذ هاشم حنون ، الرسام العراقي المقيم في عمان نموذجاً لفئة (الشخصانيين)، وهناء مال الله ونزار يحيى وكريم رسن وغسان غائب وسامر أسامة نموذجاً لـ(اللاشكليين)، وزعمت انه مثلما مَنعت�' (فكرة الشيء) بيكاسو من الرسم بطريقة (تجريدية)، حينما يقرر (فرانكلين ر. روجرز) ويورد قولاً لبيكاسو: يؤكد فيه "ليس هناك فن تجريدي.. ينبغي عليك دائماً أن تبدأ من شيء ما، وبعد ذلك تستطيع أن تزيل عنه كل بصمات الواقع.. ومهما يحدث فإن فكرة الشيء تكون قد تركت علامة لا يمكن إزالتها"، ويورد كذلك توكيدا لهنري ماتيس:
"ليس من الضروري للفنان سوى أن يمتلك داخل نفسه إيضاحاً لذلك الشيء ، الذي يمتلكه عميقاً، داخل نفسه"، وهو ما يسميه جورج براك (الحقيقة التصويرية) ويضعها في طرف نقيض مع (الحقيقة الحكائية)، فإن الرسام يكون معنياً بتكوين الأولى وليس الثانية، كذلك منعت هذه الفكرة (هيمنة علامة المشخص التي لا يمكن محوها) هاشم حنون من الوصول الى رسم تجريدي كالذي يرسم به نزار يحيى واضرابه.
تلك ملاحظات كانت تعنّ في خاطري كلما فكرت في اتجاهات الرسم التجريدي العراقي المعاصرالذي لم يكن ، في رأينا، إلا (علامات) راسخة في ذهن الرسام (للشيء) بعد ان أخضعها لمختلف ضروب تجاربه المخبرية، وقمع بعض عناصرها لإبراز البعض الآخر من خلال اختيار أهم مهيمناتها التي تظهر فيها (جرثومة) الشكل أو (الموضوعة الدالة= الموتيف). كما تظهر(الجرثومة) في نمط آخر محايث من الرسم نسميه تجاوزاً (تجريدياً)، ونعتبر اهم نموذج له تجربة الرسام العراقي المقيم في بنسلفانيا (صدر الدين أمين)، ذلك الذي يتخذ نسقاً (ثالثاً) بإصرار لا يلين، فتتحول لوحاته إلى موتيفات (جرثومات) لأنماط شكلية ذات طبيعة خطية (بكتوغرافية) صلبة من أشكال هيكلية لمشخصات: كائنات شديدة الاختزال، وشامانات، وبشر متوحشين ومنخرطين في رقصة طقوسية ، وبذلك تنتهي كل الاتجاهات التجريدية الثلاثة إلى تأسيس (نظام إشارات بكتوغرافية) من تلك المهيمنات الشكلية التي تهيمن على ذاكرة المبدع، وتخضع لها كل الأشكال التي يرسمها، من خلال مزاوجة بين أشكال الواقع وأشكال الفن و(مشخصاتهما)، وبين النظام الاشاري الذي أسسه الرسام طوال تجربته الماضية ، فكانت أيقونات هاشم حنون إشارات لونية غير خطية تنبع من مشخصات المدن التي علقت في، وهيمنت على، ذاكرته. وبدت اشارات نزار يحيى، غسان غائب وسامر إسامة أيقونات مسطحة تتخذ شكل اللوحة الخارجي الذي لم يكن دائماً مستطيلاً معتدلاً ، ولا صلة له بمشخصات الواقع ، أيقونات انبعثت من تراكم تجارب التشكيل العراقي منذ عقود، توجتها تجارب رسامي العقد الستيني وما تلاه من أجيال ، بينما كان هؤلاء البكتوغرافية (صدر الدين أمين وكريم رسن في مرحلة سابقة من تجربته) ينتجون ويعيدون إنتاج إشاراتهم الهيكلية الخطية بإصرار باعتبارها الجرثومة التي يؤسس عليها فن الرسم منذ حقبه الغائرة في القدم وما زالت صالحة كذلك حتى الآن.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home