كائنات صدر الدين أمين الطفولية
عبد الخالق كيطان
سيدني
في لوحات صدر الدين أمين تحضر كاريزما من نوع تعبيري ملفت للانتباه، هي كاريزما الكائن شديد التعلق بمحيطه وموجودات محيطه ، بالضبط كما هو الحال عند الأطفال الأذكياء منهم على وجه الخصوص .. إن الواحد منهم لا يدخر وسعاً في تدوين تأملاته الطرية وانفعالته الوجدانية السريعة التأثر والتأثير.. بهذا المعنى تصبح لوحة صدر الدين أمين جداراً في حارة شعبية رسم عليه الأولاد هواجسهم وانفعالاتهم وتجاربهم الغضة.. وإذا ما تمعنت كثيراً بالألوان البراقة التي تنقل تلك التعبيرات ستجد قوة حضورها القريب من مخيال الطفل .
يفيدنا هنا التعريج على سيرة الفنان المولود في مدينة كركوك لأسرة كردية والمتخرج من كلية الفنون الجميلة ببغداد أواخر ثمانينات القرن الماضي.. ولا تمنحك لوحات صدر بطاقة تعريفية بصاحبها كما تمنحك صور أخيه الفوتوغرافي شمس الدين أمين الذي تلتقط عدسته بشكل مثير الأزقة الخلفية لمدينة التنوع الثقافي والعرقي في العراق، في تلك الصور تظهر الجدران التي تأثر بها صدر ودفعته لمغامرة الرسم التي نحن بصددها … جدران حفرت فيها السنين آثارها، وكانت الأقوام والحيوات التي مرت بها معيناً لا ينضب للقول والخيال أيضاً .. جدران تتلوى، وأخرى تتكاثف في لحظات تراجيدية مفعمة بالانسانية ، يقوم صدر بأنسنتها وتطويعها لتبح جدراناً ، لوحات للزهو والفرح.. الفرح كلمة تصلح كثيراً لوصف ألوان صدر .. الفرح الذي يخبئ في أعماقه تراجيديا الإنسان في تصميمه على البقاء.. هل يذكر ذلك برسامي الكهوف الأولى؟ لا بأس من ذلك ما دام يفيد في لحظة استدعاء الذاكرة الطفولية وصبها من جديد في لوحة لا تمسكها الأطر ، فهي ما لبثت تحاول الانفلات من أطرها والامتداد طولاً وعرضاً ، وليس من المستغرب بعد ذاك أن تجد لوحات صدر من الأحجام الكبيرة تحديداً ، وفي ذلك إشارة واضحة على التصاقه بالجدران والحيطان دون أن يقع في فخ الشعاراتية التي توفرها تلك الجدران ، بل العكس من ذلك، حيث تلحظ الجنوح نحو التأمل أكثر من أي شيء آخر.
وإذ تحضر تفريعات مخيلة الطفولة في لوحات صدر ثمة أيضاً ذلك الحضور الطاغي لكائنات غير موصوفة، كائنات بساقين ورأس أو تلك التكوينات التي تماثل أحجيات السحرة ورسومات المشعوذين وطلاسمهم ، في اللوحة المرفقة (اللوحة رقم واحد )تحضر الكثير من تلك التشخيصات المختلفة والمتنوعة ، وهذه اللوحة كانت حازت على الجائزة التقديرية بمناسبة المعرض السنوي الأربعين لمتحف لانكستر للفنون في ولاية بنسلفانيا الأمريكية حيث يقيم الرسام .. وهي كائنات ستجدها تتكرر في أغلب رسوماته حتى أصبحت لازمة ، اللازمة هنا أسلوب عمل لا استنساخ وتكرار غير مدروس .
هل نستطيع بعد هذا التوصيف أن نقرر ما هي تلك الكائنات التي يشغلنا بها صدر الدين أمين ؟ من المؤكد أننا لن نستطيع إلى ذلك سبيلا ما دامت هذه الكائنات تندلع من مخيال طفولي غير ممسوك به ، إنها بعبارة أخرى قصيدة شاعر مخبول ، أو موسيقى منتجها أصم تندفع بمواجهة قسوة العالم بكل طاقتها الانفجارية محاولة رسم ملامح انسانية جديدة وصوغ علاقات نقية غير ملوثة بنفاق الواقع … وبالرغم من انها أبنة هذا الواقع إلا أنها تسطيع الافلات منه بقوة حضور الخيال التعبيري الذي يحاول التوحد بملكوت آخر ، سماوي لا يحضر فيه غير الفرح والغرابة أيضاً
***