الفنان الكوردي صدر الدين أمين: الفنان الحقيقي يولد ويموت فنانا
حاوره/ أدهم ميران
الفنان صدر الدين امين من مواليد مدينة كركوك 1963، حيث ولد في محلة قصابخانة، واكمل جميع مراحل دراسته في كركوك قبل التحاقه بأكاديمية الفنون الجميلة، أقام وشارك في عديد من المعارض داخل وخارج العراق، في الاردن وهولندا وبلجيكا وبريطانيا، اضافة الى المشاركات والمعارض العديدة التي أقامها في ولاية بنسلفانيا الأمريكية حيث اقامته الحالية. هذا الفنان كتب عنه الكثير من النقاد من الغرب والشرق، وكاد يجمع الكل على وصف اعماله الفنية بما يسمى بالفن البدائي. بيد ان هذا الوصف لا يخلع عنه صفة التعبيرية التجريدية التي تكمن في بناء اعماله الفنية، انه يبدأ بعفوية وتلقائية لانتشال اشكاله الموغلة في ذاكرة طفولته، ويبدأ يشذبها ويعقد بينها علاقات فردوسية تعيش على ارض خالية من الأحقاد والأضغان والخوف. انه يبحث عن فردوسه المفقود (كردستان) بما فيها من وديان وجبال وجداول وبشر وحيوانات واسماك وحشرات وكل ما ينطق بالحياة والجمال كما يقول الفنان نفسه، مصورا اياها بحدسية فائقة مؤسسا لعلاقات بريئة بين كائناته في عالم وسيع رحب يضم كل ما ينبض بالحياة، بمقدرة لونية عالية لا تخفى على المتلقي والمختص في آن معا، داعيا ألوانه الدافئة والباردة وتمازجاتها لترفع كاهل مفرداته بكل عفوية جاعلا جوا يقترب من الهارموني مرة ومن التضاد مرة أخرى، فاللون عند الفنان له اهمية كبيرة في ابراز عالمه واطلاق العنان لانفعالاته وتكثيف معانيها، فعلاقات مفرداته ومعانيها تكاد تخلق سلسلة مترابطة بين جميع لوحاته رغم تباين عناوينها. فكل لوحة بما تحمله من رموز وتعابير ميثولوجية تمثل قصة ما، تأخذك تداعياتها الى أحلام عالم الانسان الأول وتستمر بك بتجاربها الى حيث أحلامه الآن، ولو قدر لهذه اللوحات ان تطبع على هيئة اوراق التاروت التي تحملها العرافات الايطاليات، لكان بامكان كل متلقي ان يجد فيها قصة عاشها في مكان وزمن ما او امكانية ان يعيشها في حياته اللاحقة كما يصورها الروائي المعروف إيتالو كالفينو في روايته (قلعة المصائر المشتركة). هذه المزاوجة بين الخيال والواقع والهروب من الخيال الى الواقع وبالعكس، لها مدلولاتها السايكلوجية لاكتناه الحياة. الفنان صدر الدين امين عالج كل هذا وذاك بحساسية مفرطة نابعة من صدقه مع الأشياء وتعامله التلقائي مع محيطه والحب الجامح للآخرين منذ صغره. لقد عرفته أيام الدراسة في اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد كثير القراءة له معرفة واسعة بالمدارس الفنية قديمها وحديثها، استطاع من خلال هذه السمة وتلك الى جانب تجربته الحياتية واختياره للرموز والمفردات ذات القاسم الانساني المشترك ان يوصل خطابه البصري وعالمه الفني بما يمتلكه من تراكمات لونية وانشائية جمالية، حدسية كانت أو اكاديمية ويحفر البسيط من الرموز والمفردات قويا في ذاكرة المتلقي بنجاح باهر. أقول ان الفنان أمين لا يسعى لإيجاد لغة او روابط مشتركة بين كائناته الحية، بقدر ما يسعى لإزالة النقاب عنها والتعريف بها لإنسان اليوم الذي نسيها في غفلة تيهانه في لجة التكنولوجيا ولهاثه وراء العصرنة والمادة، وكأنه بهذا يؤسس لكتابة تعاليم بوذا بلغة بصرية تلقائية غاية في الشفافية.
ما هي قصتك مع الرسم، وكيف بدأت مسيرتك الفنية؟
: صدرالدين
يمكنني القول باني بدأت اعشق الرسم في السبعينات من القرن الماضي، ويعود هذا العشق الى ان اغلب افراد اسرتي يمتهنون الرسم، فكان اكبرنا وهو اخي عابدين امين رساما ممتازا وهو من اوائل من تم قبوله في اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ولكن للاسف لم يستمر في الدراسة بل انتقل الى كلية اخرى وذلك بسبب ظروف الحياة المعيشية الصعبة اضافة الى الوضع السياسي في ذلك الوقت فقد انتقل اكبراخوتي الى صفوف البيشمركة ابان ثورة ايلول، وبذلك وضعتنا الحكومة جميعا في خانة - العصاة - المصطلح الأمي الذي كان يطلقه حزب البعث المنحل على البيشمركة الكورد المدافعين عن الحياة الحرة الكريمة والاستقلال والحرية على ارض كوردستان او ( بلاد الابطال ) كما كان يقول الجواهري، لذا وفجأة وجدت نفسي غارقا في رسومات مائية وتخطيطية وزيتية عن موضوع واحد ووحيد هو كوردستان بطبيعتها الخرافية الاسطورية وبكل مافيها من جبال ووديان وغابات وبشر وحيوانات وحشرات وكل ما ينطق بالحياة والجمال، فبدأنا نرسم كل شيئ يتعلق بـ ( فردوسنا المفقود ) كوردستان، اتذكر ان اخي عابدين كان يتقن رسم البورتريت بمهارة عالية وقد رسم عشرات البورتريتات عن الزعيم الخالد مصطفى البرزاني، وكنت اراقبه بدهشة اثناء الرسم وكان يحذرنا من رسم تلك الصورة ( الخطيرة ) على حد تعبيره لأن الحكومة اذا ما عرفت بالأمر فسوف تدفننا احياء، لذلك اتجهت بدوري الى رسم طبيعة كوردستان فقط اضافة الى صور الحيوانات وعلى وجه الخصوص الذئب لما في ذلك من معاني ورموز لهذا المخلوق المخيف القوي الذي رافقني من خلال حكايات الكبار لنا حين كنا صغارا، وبقي الذئب حتى هذا اليوم يرافقني في اغلب اعمالي، وقتها كنت ارسم الذئب كرمز للشجاعة واليوم ارسمه كرمز للموت والهلاك والدمار والنفي كما يحدث اليوم في العراق، اشعر اليوم وانا أتأمل حالة الشخصية العراقية ان كل واحد منهم يحمل في داخله حيوانا، بعضهم يحمل حيوانات جميلة كالطيور والارانب والسناجب ...الخ، وهؤلاء من محبي الحياة وهناك.. ويا للاسف من يحمل في داخله حيوانا كاسرا ومدمرا ومخيفا كالذئاب والنمور والافاعي، انه ذلك الارهابي الذي يكره الحياة ويمجد الموت. في الخامس الابتدائي كنت قد وصلت الى مرحلة جديدة في الرسم فبدأت ارسم لأول مرة صور الفتيات واتذكر مرة رسمت فيها فتاة كانت تدرس معنا في المدرسة، كنت متعلق بها وبجمالها أيما تعلق ( طبعا انا دخلت المدرسة وعمري عشر سنوات، يعني في الابتدائية كنت مراهقا)، فرسمت تلك الفتاة وهي بتنورة قصيرة وتفاصيل اخرى، انبهروا التلاميذ حينما شاهدوا ذلك الرسم، وحدث في حينه ان قام احد التلاميذ بسرقة الرسم واخذه الى معلم الرسم وكان اسمه ( جمعة ولا اتذكر اسم والده ) جاءني المعلم غاضبا ونهرني امام التلاميذ وقال بالحرف الواحد: " لو رسمت مرة اخرى مثل هذه الرسوم لقطعت يديك" هذا بدل ان يشجعني وقد استغربت جدا ومعي التلاميذ الفرحين بذلك الرسم، ولكن زال استغرابي حين علمت لاحقا ان هذا المدرس كان ذا توجه ديني وقد أعدمه نظام صدام لانتمائه لأحد الاحزاب الاسلامية آنذاك. طبعا منذ ذلك الوقت وحتى اليوم لازلت اخاف من رسم الفتيات، لقد مات ذلك المعلم لكن افكاره لازالت على قيد الحياة، بل قويت اكثر من قبل داخل المجتمع، انظر وأتامل مايجري في اكاديمية الفنون الجميلة والمعهد في بغداد واشعر بنهاية الفن العراقي هذا الفن الذي كان في طليعة الفن العربي لكن اليوم تراجع الى الخلف مئات الخطوات، واعتقد ان مستقبلا مظلما ينتظر الفنان العراقي واتمنى ان اكون مخطئا تماما، تصور ياصديقي ان بعض الرسامين من اصدقاءنا (الفنانين) قد تحول الى خطيب في جامع، واخر صار وهابيا اعتزل الحياة واخر ترك الرسم رغم انه مقيم في الغرب وأبلغ عائلته في العراق ان يحرقوا كل رسوماته لانه اكتشف ان الرسم حرام اليست هذه مأساة حقيقية، وقبل ايام قرأت خبرا مثيرا وهو ان احد علماء الدين في مصر افتى بتحريم النحت وتواجد المنحوتات في البيوت او الساحات ولاحقا في المتاحف، كما حدث في متاحف ايران بتشويه رسومات الانطباعيين وتدمير الاثار في افغانستان وهلم جرا. اعود لأقول منذ ان رسمت ذلك الرسم المثير كما اعتقد معلم الرسم صرت أعرف بـ ( الولد الرسام ) لمن لايعرف اسمي، وصرت احمل هذا اللقب حتى اليوم. في الصف الاول المتوسط اقمت اول معرض شخصي لي في ثانوية داقوق وذلك بتشجيع كبير واهتمام من الفنان المسرحي الراحل داوود زيا الذي اعتبره اول من شجعني ونبهني الى انني ساصبح رساما لو اخلصت في الرسم، وكان يحدثني عن الفن ويزودني بكتب عن حياة الفنانين العالميين ولكن للاسف لم يستمر الحال سوى نصف عام في المدرسة فبسبب افكاره التقدمية الماركسية وشى به من وشى، وصدر بحقه امر القاء القبض عليه ولكنه في اللحظة الاخيرة هرب ولم اره بعد ذلك ابدا، وقبل سنوات مات في منفاه في السويد وقد ابلغني بذلك صديقي الكاتب التركماني المبدع (نصرت مردان) فهو كان من اصدقاء المرحوم المقربين. في المرحلة الاعدادية كنت رسام المدرسة وقد توجت انهاء الدراسة الاعدادية بالدخوال الى اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد. اتذكر ان مدير المدرسة في الاعدادية وهو الاستاذ عبدالرحمن عاصي الطالباني ذكر امام الطلبة في احد الأيام ان صدرالدين ياتي بالكتب الخليعة الى المدرسة رغم انه طالب جيد وهنا استغربت من كلامه وقلت له مستحيل انا افعل ذلك وقد اكتشفت في نهاية المطاف انه قد وصله خبر حول الكتلوك الجميل للنحات المبدع دارا حمه سعيد، والذي كانت فيه منحوتات عارية وكنت دائما ما أجلبه معي للمدرسة ليشاهده الطلبة وقد دافعت عن رسومات دارا امام المدير في وقتها وقلت له: هذه منحوتات وفن عالمي لفنان كردي يعيش في ايطاليا وجرنا الحديث الى عصر النهضة ومايكل انجلو، وهنا استوقفني المدير وقال لي: والله انت اما عبقري او مجنون، ومنذ ذلك الوقت كان الطلبة يلقبونني بالعبقري وذلك بسبب المعلومات التي كنت امتلكها في وقت لم يفقه الأعم الأغلب من الطلبة شيئا في الفكر والثقافة والفن وكل هذا بسبب عدم وجود دروس تربية فنية حقيقية، فلا زال في العراق درس الرسم هو اما درس رياضة او درس شاغر، لذلك ستبقى الامية الفنية تعيش طويلا في عموم العالم العربي. في منتصف الثمانينات تم قبولي في اكاديمية الفنون وكان المشرف على الامتحان هو الفنان الكبير وليد شيت الذي كان نعم الاستاذ والصديق والذي تعرض للاعتقال والسجن وخرج منها بعد سنوات وكانه ليس وليد شيت ذاته والله وحده يعلم ماذ ا جرى له في سجون البعث الكثيرة، وفي الاكاديمية بدأت رحلتي الحقيقية في الرسم والحكاية تطول وبما انك كنت شاهد كبير باعتبارك كنت تدرس معي في ذات الصف الذي كان يشرف علينا الرسام الراحل محمد صبري، في سنتي الثانية تمردت وقررت ان اترك الاكادمية امام دهشة الاصدقاء والاهل والاساتذة فقد اكتشفت ان الاكاديميات والمعاهد لاتصنع الفنانيين، كما يقول هربرت ريد، فقد اصبحت الاكاديمية كلية مغلقة للبعثيين وصارت مؤسسة حزبية وعسكرية فكان الاستاذ يدخل وهو يتمنطق بالمسدس، فانا شخصيا لا استسيغ ولا اتقبل ان يتحث الاستاذ عن فان كوخ مثلا وهو يحمل مسدس، هذا الوضع السريالي جعلني اكره الفن بدل ان احبه ووجدت نفسي في وضع مقزز وعندما شعرت بالصدمة لم اتحمل الوضع فتركت الكلية ولم اندم على ذلك سوى انني تركت بعض الاساتذة الرائعين وبعض الطلبة الفنانين، برأيي الشخصي ان الانسان الفنان يولد وهو فنان ولايمكن اطلاقا لأحد ما أن يصنع فنا لا المؤسسات ولا الجامعات ولا الاموال ولا الشهرة الزائفة، فالفنان الحقيقي يولد ويموت فنانا حقيقيا، هذا ماتعلمته من الفن والحياة عموما، يقول كاندنسكي ( الرسم فن رفيع، والفن يمنح قوة تستهدف تنمية النفس الانسانية، واذا فشل الفن في ان يحقق هذا الهدف فان المسافة التي تفصلنا عن الله تفتقر لجسر يمكننا العبور عليه للسمو الانساني الارقى
اي المدارس الفنية استهوتك في بداية حياتك؟ وهل تركت أثرا او نقطة انطلاق في اعمالك الفنية فيما بعد لتكوين اسلوبك الخاص في الرسم؟
: صدرالدين
- في الحقيقة لقد استهوتني في بداية حياتي الفنية ولازالت اغلب المدارس وخاصة تلك التي ظهرت ما بعد الانطباعية، كالتعبيرية والتعبيرية الالمانية والتعبيرية التجريدية مدرسة نيويورك تحديدا وثم الدادائية التي اعتبرها ثورة عظيمة في الفن، والدادائية الجديدة التي ظهرت في امريكا على يد روبرت راوشنبيرغ وجاسبر جونز والوحشية وخاصة اعمال هنري ماتيس والسوريالية وخصوصا اعمال سلفادور دالي وكذلك السوريالية الغنائية ومعلمها خوان ميرو ولاننسى بول كلي واسلوبه المتفرد في الرسم الحديث وثم البدائية والتي اصبحت اكثرها قربا مني، وايضا استهوتني اعمال جماعة كوبرا وخاصة اعمال الجينسكي واسجر جورن، كل هذه المدارس بفنانيها الكبار تركت الاثر الاعمق في اسلوبي لاحقا بشكل او باخر.. وبعد ربع قرن من الرسم والتجارب وجدت نفسي منتميا بقوة للمدرسة او الاسلوب البدائي في الرسم ووجدت ايضا ان النقاد وضعوني وصنفوني ضمن البدائية واول من اطلق علي بالبدائي هو الناقد الرسام خالد خضيرالذي اهتم بتجربتي ومتابعة ما يجدّ من اعمالي والكتابة عنها بين فترة واخرى، بشكل مغاير مرة تلو أخرى، وهذا ما جعاني احسب خطواتي جيدا كي لا اصل الى نهاية نفق مسدود، وانا في الحقيقة اشكر خالد خضير وكل ناقد كتب عني فانا اشعر بانهم جميعا يحاولون ان يجعلوا مني رساما جيدا، وعندي اليوم ويب سايت او موقع شخصي باسم البدائي وذلك على الانترنيت وبامكان المشاهد والمتذوق ان يجد مئات من لوحاتي وصوري ومقالات، اضافة الى صور ولوحات فنانيين بدائيين عالمين وصور اصدقائي الشخصيين، ومنذ ان اكتشفت البدائية سحرت بها ووجدت نفسي مأخوذا بعوالمه الطفولية على وجه الخصوص واكتشفت فيها تلك الخلطة السحرية الممزوجة بين الجمالي والروحي مزجا فنيا وفكريا ولأصهره في بوتقة الفكر والفن البدائي الخلاق وذلك باسلوبي الشخصي والتي هي نتاج بحث وتجربة تمتد الى ثلاثة عقود من الزمن، وقد توصلت بعد كل هذه الفترات او المراحل الفنية والزمنية بأن البدائية هي الاقرب الى روحي وفكري وفلسفتي ورؤيتي للفن والحياة واصبحت ارى الاشياء بعينين خاصتين كما لو اني في كل لوحة جديدة اولد من جديد حسب تعبير مارك شاكال، اما لماذا توقفت عند هذا الاسلوب فانا ارى ان الفنان بامكانه ان يشتغل اشتغالا كبيرا مهما كانت مساحة وحجم اللوحة، ووضع الالوان والخطوط بحرية عالية اقرب الى الرسم الطفولي او رسوم المصابين بالشيزوفرينيا، وبذلك وجدت ذاتي وبت اتسلح بكل ما انتجته المدرسة البدائية من فكر وفن وفلسفة ورؤية ومفردات بلا بداية ولانهاية، وقد توصلت الى نتيجة ان البدائية قد احتوتني وانا احتويتها منذ ان وجدت نفسي باني مقبل على جمع كل مايتعلق بها مهما كان صغيرا او كبيرا في المعنى او الشكل كمفردة، وبدات افكر بكيفية وضع مفرداتي بشكل انيق على سطح اللوحة لاتفتقر الى العفوية التي هي من ضرورات الفكر البدائي رغم ان المتلقي يراها ويظن ان تلك المفردات واللوحة عموما قد رسمت بشكل عفوي لكنها في حقيقتها الداخلية غير ذلك، فكل شيئ موضوع بدقة كما عمل الصائغ الفنان، اذن انا اليوم رسام بدائي لكن ياترى هل سابقى على هذا الحال، لا اعتقد ذلك فانا لازلت ابحث عن لغة فنية اخرى واعتقد باني مقبل نحو عالم اكثر دهشة وحداثة واقصد ( البدائية الحديثة) هذه المدرسة الجديدة التي لم اسمع بها ولم يخطُها حتى اليوم قلم ناقد او فنان من العالم الشرق اوسطي، هذا ما ابحث عنه اليوم واصبو اليه ربما ستجد مستقبلا من يطلق علي لقب - البدائي الحديث - وهذا ما اتمناه واريده يوما قريبا
هل يمكن اعتبار المعارض التي اقمتها في الأردن هي البداية للدخول الى الفن العالمي، وتعرف النقاد على اسلوبك (البدائي)، وماهي اهم الأعمال التي لفتت انظار النقاد لتضعك على طريق العالمية؟
: صدرالدين
اود ان انوه بأني قبل ان اعرض اعمالي في الاردن كنت قد عرضتها في بلدان اوروبية وقد لفتت انظار النقاد والجمهور معا هناك، فقد كتبت عن تجربتي واقتنيت اعمالي وكانت تلك المعارض اللبنات الاساسية الاولى في عرض اعمالي لاحقا في بلدان العالم، وكل ذلك حصل بفضل ومساعدة الرسام الكردي خليل كاكيى الذي شجعني كثيرا على عرض اعمالي، وبذل جهودا كبيرة في ذلك حيث نقل اعمالي من كوردستان الى بلجيكا وهولندا تحديدا واقمنا معا سلسلة معارض مشتركة اثارت اعجاب الجمهور الاوروبي، فقد وجدوا في اعمالي اسلوبا مغايرا شكلا وجوهرا، لكن معرضي الشخصي الأول في الاردن كان له الاثر الأكبر على مسيرتي الفنية والتي حددت ملامح اسلوبي لاحقا، وكما هو معروف عالميا ان المعارض الاولى هي نوع من المغامرة فالفنان مقبل على عالم مجهول فاما ان يحالفه النجاح او الفشل، لكن يبدو ان النجاح كان قدر معرضي الاول الذي وضعني في مصاف فنانين كنت احلم دوما ان اكون اقل منهم بكثير.. فزيارتي للاردن واقامتي هناك لمدة سنتين فتحت لي افاق جديدة في الفن والحياة، فهناك لاول مرة استنشقت هواء الحرية وانا القادم من جحيم عراق صدام، اتذكر ان احد الضباط في (طريبيل)، حيث نقطة الحدود العراقية الاردنية قد اخذ مني كل ما جلبته معي من ادوات رسم كالالوان الزيتية والفرشاة والاوراق وعندما سألني عن لوحاتي قلت له هذه ليست لوحات، بل هي رسومات اطفال وكثير منها رسومات ابنتي ميدوزا، لذلك لم يهتم بها ولم يحتجزها ويمنعها من دخول الاردن، وهكذا انطلت عليه الحيلة واخرجت اعمالي الورقية تلك التي كنت قد رسمتها في اوائل التسعينات ومنتصف الثمانينات وتلك هي الاعمال التي كنت قد عرضتها في معرض شخصي في المركز الثقافي الفرنسي والتي لاقت نجاحا كبيرا من حيث الاشادة بها من قبل النقاد الاردنيين والعراقيين، وحجم المقتنيات من قبل االفرنسيين الذين اقتنوا مجموعة كبيرة من اعمالي وباسعار كان قد حسدني عليها احد كبار الفنانين العراقيين، ولا اخفي عليك كانت بالنسبة لي فرحة وسعادة وانتصار كبير لتجربتي المتواضعة في الرسم، الخطوة المهمة الأخرى هي انني قد تعرفت على مجموعة كبيرة من الرسامين والنقاد والمثقفين الاردنيين الذين أكن لهم كل التقدير لجهودهم في مشاركتي معاناتي ووقوفهم بجانبي والكتابة عني بشكل رائع مثل الاخوة الفنانين والنقاد: الدكتور مازن عصفور الذي قدمني في دليل المعرض والناقد محمد العامري في جريدة الدستور والناقد حسين دعسة في جريدة الراي والشاعر تيسير النجار الذي اجرى معي حوارا طويلا ولأول مرة في حياتي، وقد نشر في جريدة الزمان، اضافة الى الاشادة من قبل الكتاب العراقيين، والقائمة طويلة وانا اكن لهم كل التقدير ولهم الفضل الكبير لما وصلت اليه اليوم، ولا انسى الموقف والجهد الكبير الذي قدمه مدير دائرة الفنون الفنان والمعماري علي ماهر الذي عرفني على الكثير من الفنانيين العرب الكبار مثل مروان قصاب باشي وكمال بلاطة وكبار فناني الاردن وفنانين من ايران والهند وروسيا.. وهو الذي قدمني الى مدير المركزالثقافي الفرنسي قائلا ( اقدم لك، الفنان الكردي صدرالدين وهو احد ضحايا (علي الكيمياوي) ومن احفاد الفنان الكبير محمد عارف، قالها بروحه المرحة ورغم اني اعتز بما قدمته في ذلك المعرض من اعمال ولكن لا اعتبر تلك الاعمال اهم اعمالي، ففي ذلك الوقت تركت اعمالي المهمة في العراق وخاصة الاحجام الكبيرة منها خوفا من التلف والضياع في الحدود، اما اعمالي الأهم فأنا لم ارسمها بعد وما ارسمه اليوم اعتبره مجرد تخطيطات اولية في دفتر الرسم والى الان لم احقق ولم انجز ما اصبو اليه تماما لذلك فأنا في سباق مع الزمن كي ارسم ما لم ارسمه بعد، وهذا يتطلب بذل جهد استثنائي في العمل باستمرار والدخول في تجارب فنية جديدة والقراءة والاطلاع والاهم التأمل، تلك هي الخطوات التي تجعل من الفنان فنانا عالميا. اعتقد ان الفنان الذي يريد الوصول الى العالمية هو ذلك الفنان الذي يضحي بكل شيئ نعم بكل شيئ من اجل الرسم، ولكن من يضحي بكل مغريات الحياة من اجل الرسم ؟ ذلك هو الفنان الحقيقي، انظر وتأمل واقرأ سيرة الفنانين الكبار ستكتشف ذلك، اذن لا فنّ كبير دون تضحيات كبيرة اطلاقا.
خصص لك مكان عرض خاص لأعمالك في احدى قاعات العروض الامريكية ( كالري سوك شوكلي ) كيف استطعت ان تحقق هذا الانجاز المميز بالنسبة لفنان كردي معاصر؟ وكيف اختاروك لهذا المكان ؟
: صدرالدين
- وصلت الى الولايات المتحدة وفي جيبي 35 دولارا وحقيبة تحتوي على لوحاتي واحلام كبيرة في الحرية والفن، بعد اسبوع من وصولي استقبلتني صديقة امريكية وخلال لقائنا الاول شاهدت لوحاتي وبعد ايام دعتني الى منزلها الكبير للغداء ودعت مجموعة من اصدقائها بهذه المناسبة وهناك شاهد الجميع لوحاتي واثنوا عليها واعجبوا بها وبعد ايام فقط اتصلت بي هذه الصديقة وذهبنا الى قاعة (سوك شوكلي) وهي فنانة امريكية من اصول كورية استقبلتنا بحرارة وشاهدت اعمالي وبلغتني انها ستفكر بقيام معرض شخصي لي، وبعد ستة اشهر اقمت المعرض الذي حقق صدى كبيرا في المدينة التي اقيم، اذ حضر في الافتتاح جمع غفير واقتنيت لوحاتي ولأول مرة بأسعار كبيرة ونشرت عني مقالات في الصحف وظهرت احدى لوحاتي على غلاف ملحق ادبي وفني من الجريدة الرسمية للمدينة وبحجم كبير اضافة الى مقالة مطولة، ثم جاءت قناة فوكس التلفزيونية الامريكية الى شقتي واجرت معي حوارا وبثته على شكل تقرير واصبحت بين ليلة وضحاها من مشاهير مدينة لانكستر، بعدها اتصلت بي صاحبة الكالري من مدينة اليزبيث تاون لأقيم معرضا هناك وصاحبة كالري آخر في مدينة هيرشي لأقيم معرضا مشتركا مع اخي الفنان الفوتوغرافي شمس الدين المقيم حاليا في امريكا، وهكذا توالت العروض بعد نجاح معرضي، وحاليا صار بامكاني ان اعرض في افضل القاعات اضافة الى عروض دائمة على صالة كالري سوك شوكلي والتي ستعرض لي وللمرة الثالثة معرضا جديدا منتصف عام 2007. وفي نفس الوقت توالت العروض من ولايات اخرى أهمها نيويورك، اذ حصلت على دعوات مفتوحة من ثلاث كالريات (قاعات) وانشاء الله ستسمع قريبا جدا باخبار تلك العروض في نيويورك هذه المدينة الزاخرة بـ 150 متحفا مهما، ومئات الالوف من القاعات الفنية، وكل ما احلم به اليوم ان اعرض اعمالي هناك لأن نيويورك هي المفتاح الذهبي للدخول الى عالم الفن الكبير وهذا يحتاج الى جهد كبير ومال للوصول الى هناك، ولهذا ثمن باهظ اذ على الفنان ان يعمل كثيرا ويسهر طويلا كي يحقق هكذا احلام، يقول الامريكيون: ان من يعيش ويعمل وينجح في نيويورك سيستطيع العيش والعمل والنجاح في اي مكان في العالم بسهولة
ماهو تقييمك للفن الكردي المعاصر، هل يراوح في مكانه مقارنة بالفن التشكيلي الاقليمي والعالمي، أم انه يسير نحو التعريف بمميزاته الفنية الخاصة؟
: صدرالدين
في الواقع وبتصوري الخاص ومن خلال متابعتي ومنذ اكثر من عقدين ونيف مما يجري في الساحة التشكيلية الكردية، بامكاني القول وبجرأة بأنه لامجال للمقارنة بين ما تسميه ( بالفن الكردي) والفن العالمي هذا من ناحية ومن ناحية اخرى اقول ايضا وبكل ثقة نابعة من حقائق ووقائع انه لايوجد هنالك شيء اسمه فن كردي بمعناه الاصطلاحي وهذا لايعني اطلاقا بعدم وجود فنانين كورد، نعم هنالك فنانين كورد كثر ولكن فن قليل، ولهذا اسباب يطول شرحها ولكني سأوجز بعضا منها، فالرسم في كردستان عمره الزمني اقل من نصف قرن فيما الفن واقصد الرسم عمره في الغرب اكثر من اربعة قرون، لقد دخلت الفرشاة والكنفاس واوراق وادوات الرسم في العراق عموما في اوائل الخمسينيات مثلا، لذلك فلايمكن ان نحدد فن ما إلا بعد مرور مئة عام على الأقل على تكوينه بمعناه الاشمل، اول دفعة تخرجت من معهد الفنون الجميلة في بغداد من الرسامين الكورد كان في منتصف الستينات من القرن الماضي، بعض الخريجين غادروا الى اوروبا ولم يعودوا، منهم من ترك الرسم ومنهم من بقي يرسم ظلال الرسم الاوروبي الحديث، ومنهم من عاد يحمل معه خبرات وابتكارات واكتشافات الفن الى كوردسان عاد و قد اصيب بالاحباط بسبب عدم الاهتمام به سواء من الجمهور او المؤسسات، فالنحات دارا حمه سعيد وهو واحد منهم، عندما كان في ايطاليا كان نحاتا مهما ولو بقي هناك لكان اليوم نحاتا عالميا يشار له بالبنان، واليوم وهو في كردستان ليس هو دارا الذي كان في ايطاليا للأسف، حتى اليوم لايوجد ناقد متخصص بالفنون التشكيلية في كردستان وان كان فهو اما شاعر او صحفي، فبدون وجود نقاد جيدين ذوي خبرة وثقافة وفكر موسوعي شامل لايمكن ان يكون هنالك فن حديث اسوة بالغرب، لذلك وكما ارى لايوجد هناك من يستطيع تقييم الفنان بشكل أكاديمي، لذا فكل ماينتج من اعمال تظهر سطحية وعادية سواء اكان واقعيا او تعبيريا او تجريديا، الأعم الاغلب من الفنانين الكورد يهتم بالموضوع على حساب الشكل وبرأيي الشخصي ان المواضيع لاتخلق فنا عظيما بل الاشكال هي التي تخلق فنا عظيما انظر الى اعمال موندريان مثلا، ماينتج من الرسم الكردي اليوم في الاسلوب الواقعي والتعبيري اشبه ماتكون بالرسوم التوضيحية للكتب المدرسية ليس الا، واغلب ماينتج من الاعمال التجريدية بامكاني القول انها تجريدية سطحية وزائفة لاتمت بتقاليد التجريد بأي صلة، فنانو الداخل لم يعودوا يهتمون بالفن فهم مازالوا يبحثون عن لقمة العيش وهذا امر مؤلم للغاية وفنانو الخارج وخصوصا في بلدان المهجر الاوروبية نسوا الفن بعد اول راتب قبضوه من الرعاية الاجتماعية وهم يسجلون انفسهم فنانين كي يحصلوا على مورد مالي ثابت وهذا ما جعلهم كسولين وبعيدين عن الابداع والخلق الفني وهذا امر مخجل، هناك عدد كبير من الفنانين في الخارج ولكن اين نشاطاتهم واعمالهم ؟ حتى اليوم لم يشارك رسام كردي في مهرجان او بينالي مهم، ولم يفز اي فنان بأي جائزة كبيرة ومهمة ولم يعرض اي متحف عالمي مهم لوحة لرسام كوردي ولم يقتنى اي عمل فني بمبلغ كبير ولم تصدر اي دار نشر عالمية معروفة كتابا عن اي رسام كردي، ربما ستردد لي اسماء فلان وفلان كلهم اعرفهم، لم يعملوا ذاك الشيء المهم، اذن كيف بامكان الرسام الكردي ان يكون فنه بمستوى الفن العالمي؟ اقول على الفنان الكردي ان يكون مخلصا للفن اولا وان يرسم كل يوم سبعة عشر ساعة كما كان يفعل (اندي ورهول) وهو يعيش في سرداب تحت الانفاق في نيويورك وينام في مرسمه في صحبة مجموعة مشردين، لا كما يفعل ويقوم به الفنان الكردي الذي ينام سبعة عشر ساعة في اليوم ويريد ان يكون فنانا عالميا
كلمة اخيرة
: صدرالدين
اشكرك جزيل الشكر لانك اخترتني لتجري معي هذا الحوار رغم ما يفصلنا من محيطات وقارات، لكني اشعر وكأننا نتحاور وجها لوجه، وفي الحقيقة هذه اول مرة يتصل بي صحفي كردي من كوردستان وهذا ما اسعدني كثيرا جدا، اعتقد انه من الضروري ان يبحث الصحفي عن الرسامين وخاصة المهمشين منهم ليسلط الضوء عليهم وثم لإيصال صوت الرسام وآراؤه وافكاره وفلسفته للفن والحياة عموما الى محبي الفن والثقافة والفكر وخصوصا لأهلنا في كوردستان
***
نشر هذا الحوار في مجلة سردم العدد 15 لعام 2007